القصة الثالثة من أصل خمسة


أجلس على كرسي خشبيّ, أنتظر الحافلة, لا أعلم حقاً إلى أين سأذهب.. لكنني أحتاج أن أكون على متن هذه الحافلة وكأنها سفينة نوح
أنتظر, لا أحد في الجوار, لست متأكداً أين أنا على أي حال.. أنظر حولي, هناك شجرة صلعاء و سنجاب يسخر من صلعتها, أو على الأقل هذا ما أعتقده..
هناك شمس لم تمشط شعرها الغارق في تضاريس الوجود بوحشية تحرقني.
هناك زرقة باهتة في السماء, وسحاب لا ينتوي أن يكون غيماً.
ماذا هناك أيضاً ليشغلني عن الانتظار؟  هناك أرصفة تمتد كخناجر في حلق العدم, هناك أنا, نحيل كعصا مكنسة, باهت كمصاص دماء, طويل الأذرع كالغوريلا, قصير الصبر كما أنا قصير الذاكرة.
ما زلت أنتظر, لا أعلم كم من الوقت مر منذ أتيت إلى هنا.
شيء على المحك يمنعني من المغادرة, شيء قهري يسمرني بأرضي.
أجلس في محلي على الكرسي الخشبي المطلي بالأبيض, أحدق في حذائيّ و أربطته المنحلة , أربطها وأحكم رباطها و أنتظر.
أخدش أجزاء من الطلاء المتكدر على الكرسي, وأنتظر.
أعد الطيور و السناجب و الصراصير الراكضة نحو الثقوب المخرومة في أطراف الرصيف, وأنتظر.
أنتظر في ضمنية الزمن اللامعلوم, لا ساعة حول معصمي ولا أعلم منازل الشمس في السماء لأخرج منها بالوقت.
لذا كل ما أملكه هو الإنتظار..
ألمح صورة متوهجة قادمة من وسط القيظ الآخذ بالاتساع, تقترب مني حتى أفسر ملامحها.. تبدو الآن كحافلة قادمة من البعيد.
أتأهب للصعود على متنها بعجل.. أركض بضع خطوات نحوها, وريثما تقف يُفتح الباب.
أسارع بالصعود, أجلس دون أن الاحظ أنني الوحيد هنا.
لا أحد على متن الحافلة, رغم أن الأمر يبدو غريباً إلا أنني أتجاهله, بذلت مجهوداً لركوب هذه الحافلة ولا أكترث إذا ما كنت الوحيد هنا.
أستلقي على الكرسي محاولاً الاستسلام لبرودة المكيف إلا أن السؤال ينتشلني "إلى أين أنا ذاهب على أي حال؟"
أقترب من الأمام قليلاً.. هناك ستار يفصل بين السائق و الركاب, ولا أعلم ما المغزى منه حقاً.
أحاول أن أسحب الستار, إلا أنه عالق, أنادي على السائق حتى يعينني لكنني لا أجد اجابة.
أبدأ بشد الستار في محاولة نزعه, أضع قوتي كلها في انتشال قطعة القماش التي بدأت تريبني, حتى سقطت رتقاً في يدي.
أرميها على الأرض بينما تأخذني الرهبة و أنا أنظر إلى مقعد السائق الفارغ.  أقترب من المقود الذي يتخبط بالأرجاء دون أن يؤثر على سير الحافلة.. ما الذي يعنيه كل هذا؟
أركض نحو الباب في محاولة فتحه بلا فائدة, أشده و أدفعه و أركله على أمل أن يتحطم كما تمزقت الستارة.
أعود إلى مقعد السائق و أحاول أن أتحكم بسير الحافلة, أحاول إيقافها, ولكنني عالق هنا, على متن حافلة بلا سائق تتجه بي إلى المجهول.
أجلس على أحد المقاعد محاولاً التكهن بما يجري.. هناك حافلة تقود نفسها بلا أحد سواي على متنها نحو اللامعلوم.
هناك غريزة داخلية شدتني لركوب الحافلة, هناك قطعة ذاكرة مفقودة  تشي لي بأين كنت قبل محطة الحافلة.
وهنا أنا.. بالكثير من التساؤلات ولا ظلٍ لإجابة تشفي رعبي.
تتوقف الحافلة فجأة, ويُفتح الباب عند محطة حافلة.. أنزل على عجل. أنفاسي متقطعة وتخرج بوعورة.
هناك شيء عليّ فعله.. هناك مكان يتوجب عليّ الذهاب إليه !
ولكن أين يا ترى؟ لا أعلم, كل ما أعلمه أن عليّ أن أكون على متن الحافلة وكأنها سفينة نوح, لذا أجلس على كرسي خشبيّ, أنتظر الحافلة...

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ما خلف السور الطويل

للفتاة التي تسكن مناماتي..

ما قد تجده في ملازم طالبة مجتهدة