القصة الثانية من أصل خمسة


استيقظت ذاك اليوم بإدراك خارج قدرتي, بجزع تتجاوز اذرعه امتدادات دماغي.
استيقظت ذاك اليوم -ولا اعلم ان كنت استيقظت قبل ذلك أم لا- داخل قصة قصيرة, وُجدت تحت رغبة كاتبتها (أمنية) بإنشاء نص خارج عن المألوف.. لذا استيقظت يومها كشخصية رئيسية تحمل وعياً فوقياً بشأن الخيوط التي تحركها، ولا يسعها سوى المضي بالقصة لأن الكاتبة تستمر بالكتابة على أي حال دون أن تأبه لرغبتي بالتوقف و التأمل مطولاً في مقدار الجزع الذي جرتني اليه، فلو أنني استيقظت دون أن أدرك الامر لما كنت لأكترث، ولكنني أعلم قسراً أنني هنا للحكاية التي تريد الكاتبة قصّها، لذا أنا بشكل أو بآخر ألبي نداء وجودي الذي لم اختر الخوض فيه.
أعلم بأن اسمي ميلا، وحسب الذاكرة الافتراضية التي احملها فأنا معلمة موسيقى فقدت والدتي -التي كانت معلمة موسيقى بالمناسبة- في حادث سيارة قبل 16 عاماً، وكرست حياتي لأصنع من والدتي لحناً أهفو اليه كلما غمرني الحنين.
على الأقل هذا ما أتذكره، ولكنني منذ ذاك اليوم و أنا عاجزة عن الشعور به، لأن هناك احتمال وارد بأن كل هذا مجرد كلمات وُضعت في رأسي لأشرحها في نص.. لأنني أعلم بأن هناك كاتبة فوق رأسي تفكر بخطوتي التالية، تحاول أن تقحمني في معضلة من نوع ما لتصنع نصاً، ليكون هناك حكاية، لأعاني، ثم بطريقة جوهرية أجد حلاً بينما أنطفئ لحظة الغروب.
ألا تعتقد بأن الأمر سخيف؟.. ألا تعتقد بأن الأمر سخيف و جنوني ولئيم؟
 لأن كل ما لدي هو هذا الحدس بأن هناك نقراً يرسم لحظتي القادمة بلا دليل فعليٍّ على ذلك، كل ما اعلمه بأنني استيقظت وأنا أشعر بأنني في خضم قصة قصيرة تحاول كاتبتها أن تكتبني، ولكن ماذا لو أنني أتوهم؟ ماذا لو أن كل شيء حقيقيٌ جداً ، وأنا فقط استيقظت و قررت بأنني لا أنتمي إلى هنا؟ لذا انفصلت عما يفترض به ان يكون واقعي؟ ماذا لو أن والدتي ماتت فعلاً كما هو مطبوع في ذاكرتي؟ أنى لي أن أبرر هذا الفتور تجاه موتها؟ كيف لي أن أشعر بحقيقة الأشياء و كل شيء يحتمل ان يكون كذبة؟ محاولة كتابة من قبل شابة هوجاء.. لم تفكر مرتين قبل بثي للوجود الحامي بصوت الشك الوقاد؟
"ماذا فعلتِ وقتها؟ حينما استيقظتِ وأدركتِ بأنك مجرد شخصية في قصة؟"
في البداية حاربت الفكرة, تجاهلتها, ونفضتها عني ككابوسٍ يعجز أن يطأ أرض اليقظة
ارتديت أقرب قميص مع اقرب تنورة رسمية و سارعت بالركض نحو حصتي.
بدأت كما ابدأ "دائماً" بالسؤال عما اخذناه بالحصة السابقة، ثم هممت بشرح مقطوعتنا الجديدة و عزفها
كان كل شيء طبيعياً جداً و معتاداً جداً عدا الصوت السقيم الذي كان يتردد داخل رأسي.
حاولت تجاهله بالعزف، بالنقر على اصابع البيانو لكنني بكل مفتاح أنقره اسمع ضحكة ساخرة على محاولاتي لغلب جنوني -او يقظتي-
 على همهمتي للنوتات الموسيقية بغرض تفادي النظر للفكرة في عينها, على ادعائي الصمم في وجه تطاولات الصوت في رأسي.
حاولت بجدٍ ألا أذعن لهذا الجنون ولكن الصوت كان عالٍ, عالٍ جداً! بشكل يجعلني متيقنة من وجوده
بطريقة تدفعني لتصور كل لحظة يتم تشييدها من هذه القصة.. التوقفات الطويلة, الفواصل, الأخطاء الإملائية.. حتى المسح و الإعادة.
أتعلم بأنه في نسخة مختلفة من هذه القصة فقدت والديّ دفعة واحدة, وكبرت وحيدة في تضاد سقيم للمجتمع؟
ولكن في هذه النسخة والدي ما زال هنا, يعيش في الضواحي بعيداً عن الضوضاء, يحاول أن يصنع كتاباً ترقد فيه ذكرى والدتي بسلام.
ذهبت لزيارته قبل عدة أيام, فقط لأتأكد بأنه موجودٌ فعلاً, لأن الأشياء تصبح ضبابية و متغشية في ظل المعرفة المتعددة.
لأنني ما عدت أعلم بما أصدق بعد الآن, لأن هذا العالم يبدو مزيفاً رغم واقعيته, لأن كل شيء يخبرني بأنني أتوهم, وكل شيء يبدو وهماً في مواجهة هذا اليقين الداخلي العميق بوجود قلم يرسم ملامحي بالمفردات.. الأمر أن كل شيء يبدو جنونياً منذ استيقظت. وأنا بكل خلية أحملها في هذا الجسد خائفة, وهذا الخوف لا ينطفئ, لأن هذا الصوت الناشب في رأسي لا ينطفئ!
"ألا تعتقدين بأنه من الغريب أنك وجدت نفسك في قصة, بينما والدك يحاول أن يُوجد والدتك في قصة؟ ألا تجدين في ذلك نوعاً من الترابط؟"
لا أعلم, ربما تلك ارادة الكاتبة, أو سخريتها, ربما هذا الحوار الذي نخوض به ضمن ذلك أيضاً
"إذاً أنتِ تشعرين بأن لا يد لك على تصرفاتك؟"
ليس أن لا يد لي بالأمر بقدر أن كل ما أفعله (أو تفعله أنت بالمناسبة) هو مجرد سطور في حكاية نحن نعيشها, وهي تخطها.. ربما تعتقد بأن لك السلطة على ما تفعله, أو على الأسئلة التي تسألني هي الآن, ولكن الحقيقة أن كل شيء بيدها, هي التي تعبث بنا, وترصنا كما تشاء, هي التي دفعتني إلى هنا.
"آه, أرى ذلك."
___
تخرج ميلا من العيادة بعد أن حددت موعداً للجلسة القادمة, ينظر الطبيب النفسي إليها و هي تمضي بعيداً بشيء من الأسى وهو ممسك بالتشخيص المبدئي (فصام مع وهم التحكم وضلالات التأثير)

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ما خلف السور الطويل

للفتاة التي تسكن مناماتي..

ما قد تجده في ملازم طالبة مجتهدة