الرسالة الثانية من أصل عشرة

صباح الخير يا لميس
أعلم بأنه من الكياسة السؤال عن الحال في هذا الموضع من الرسائل عادة
ولكنني أعلم بأنك بخير.
أعلم بأن لا شيء بإمكانه أن يؤذيك هناك. أكتب لك في التاسعة صباحاً في الوقت الذي تغلب حرارة الشمس فيه كل شيء في الوقت الذي غلبتك الحرارة فوقعتي أسيرة لها مضت ٧٣ سنة و لكنني ما زلت أتذكر ملامح والدتك حينما أتيت راكضة لزيارتك الباب المندفع بطيش دخولي مبتسمة و كأنني أحمل بجيبي المعجزات و أمك.. بدموعها الموشومة على خديها أتذكر الخوف الذي اعتراني حينما رأيتها لم يسبق لي أن رأيت الكبار يبكون لم أعلم أنهم قادرين على ذلك أصلاً ظننت دائماً أن الدموع خُلقت لضعفنا لأننا أصغر من أن نحتمل الحزن و الألم لهذا كنت أهفو لأكبر ، حتى تتوقف الدموع و أصبح قوية كبطل خارق لطالما اعتقدت بأن البالغين أبطال خارقون ولكن رؤية والدتك بذاك المنظر شوشني و حطم معتقدي! وقفت بجانب الباب الذي ركلته بخجل لم أعرف ما عليّ فعله كان الأمر مخيفاً و غريباً، أردت وقتها أن أهرب، ولكن أمك رأتني و حينما فعلت ، ارتفعت حاجبيها بأسى و أنّت اسمي باكية "أحلااام!! أوه يا حبيبتي!" وجرتني إلى حضنها قهراً.
كنت حتى تلك النقطة لم أدرك فداحة ما خسرت
وكل ما كان يشغل ذهني هو الفرار من خد والدتك اللزج. لذا سألت "امم.. عذراً عمة، لكن أين لميس؟" سؤالي الذي ظننته مفتاحاً لفراري كان الحكم عليّ بأضعاف العقوبة فقد تشددت بي والدتك حتى ظننت بأنها لن تتركني وانخرطت في نياح طويل. لم أعلم ما أفعله و خفت أن أفعل شيئاً قد يتسبب باختناقي أكثر لذا بقيت في محلي، بين ذراعي والدتك التي من المؤكد اتخذتني كبديلة لك في تلك اللحظة. حينما انتهت، امسكت بكلتا يديّ و شدت عليهما ثم ألقت الخبر عليّ "أحلام، انتي مؤمنة صحيح؟ انتي تريدين الذهاب للجنة صحيح؟ كلنا نريد الذهاب للجنة ، ولميس، حسناً.. لميس كانت تريد الذهاب بشدة لذا قررت أن تسبقنا." حينما انهت جملتها تساقطت دموعها بينما مدت يدها نحو علبة المناديل. العلبة فارغة، كذلك دماغي. قامت حينها والدتك و تركتني مع الفكرة المبهمة لم اعلم تحديداً ما الذي حصل بعد.. كل ما فهمته أنك الآن بالجنة، لكنني لا اعلم متى تعودين. اتفقنا سابقاً حينما اخذنا درس جزاء الكفار و المؤمنين بالآخرة بأننا حينما نذهب للجنة سنطلب من الله حديقة ملاهٍ كاملة لي و لك فقط. وسنلعب فيها حتى يغلبنا التعب، ولكن يبدو بأنك قررتي الذهاب وحدك إلى هناك.
لماذا يا ترى فعلتِ ذلك؟ تعود أمك بعلبة المناديل بيدها و تجلس جواري. و أتجاسر لأسأل بصوت منخفض و غير متأكد" عمة.. متى ترجع لميس من الجنة؟" الوجه الذي اتخذته والدتك ارعب سؤالي بدى و كأن شيئاً تحطم داخلها في تلك اللحظة شفتاها ترتعشان بينما تنطويان نحو الاسفل عيناها شلالان لا تكفان عن الانسكاب وكل ما فيها يرجف و ينكمش تمسك بيديّ مرة اخرى، ثم ترتفع نحو كتفايّ الضئيلان. تقول بصوتٍ ضعيف و منكسر" لميس ماتت ، أتعلمين ما يعنيه ذلك يا أحلام؟" أتذكر كتكوتي الذي اشتريته من المهرجان و دفنته في الباحة الخلفية. اومئ برأسي "نعم" تكمل والدتك"أي أنها عند ربنا الآن، وستبقى هناك.. تنتظرنا في الجنة." أستمر بهز رأسي ببلاهة بينما تتضح الصورة في عقلي شيئاً فشيئاً ابقى في محلي لعدة دقائق في صمتٍ تامٍ بينما يجول دماغي في العدم. كانت أمك قد قامت لفتح باب العزاء للنساء القادمين. و أنا قد قررت العودة للمنزل طالما لم أجدك، و المكان احتشد بنساء يرتدين السواد. في طريقي للمنزل تتدفق في قلبي الكثير من المشاعر الغريبة.. أنا لست حزينة، ليس تماماً! فالفكرة ما زالت طازجة و انا لم أصافح يد الموت بهذه الحرارة قبلاً.
كل ما أعلمه بأنني لن أجد من يرافقني إلى المدرسة و الألعاب بعد الآن
وهذا يتوهج داخلي بشعور غريب بالوحشة.. أفتح باب المنزل و أجد أمي في الصالة تنتظر، لقد أتاها الخبر تواً. تركض نحوي بمجرد ولوجي و تحتضنني. تمسح على رأسي، تبكي، أمي تبكي أيضاً؟! تعتذر، لماذا؟ أي جرم من الممكن ان ترتكبه ماما؟ تسألني"هل رأيتي شيئاً؟ هل أنتي بخير؟" ما الذي رأيته؟ استمر بالإيماء بصمت. و تستمر هي باحتضاني و المسح على رأسي و ظهري، وأشعر بشيء داخلي يتفتت و يُطحن ، و أشعر بالألم ! ليس الألم الذي يأتي حينما تُخدش ساقي وانا العب بالدراجة ولا الألم الذي أشعر به حينما أتناول طعاماً سيئاً. ألم فريد من نوعه، داخلي، مغروسٌ في صدري. تستمر أمي في ملازمتي لعدة أيام قلقاً عليّ بينما استمر في المضي في ايامي كما هي.. لا شيء اختلف سوى احساسي العميق بالوحدة في كل مرة أعبر قطعة فارغة منك خلال اليوم.
في كل مرة أتجه نحو الأرجوحتان المعلقتان بجذع شجرة اللوز القابعة في آخر الحارة.
في كل لحظة أترك فيها مقود الدراجة و لا أجد من أتباهى أمامه بجسارتي
في كل لحظة يمر يومٌ جديد و ظلي قابع تحت الشمس وحيداً.
أكتب لك الآن بعد ٧٣ عاماً لأخبرك بأنني ما زلت أذكرك رغم عتيّ ذاكرتي فيما يخص الأشخاص، و أنني قادمة لزيارتك قريباً. لذا كوني في انتظاري..
صديقتك: أحلام

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ما خلف السور الطويل

للفتاة التي تسكن مناماتي..

ما قد تجده في ملازم طالبة مجتهدة